سورة الكهف - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


{الحمد لِلَّهِ الذى أَنْزَلَ على عَبْدِهِ} محمد صلى الله عليه وسلم {الكتاب} أي الكتابَ الكاملَ الغنيَّ عن الوصف بالكمال المعروفِ بذلك من بين الكتبِ، الحقيقَ باختصاص اسمِ الكتابِ به، وهو عبارةٌ عن جميع القرآنِ أو عن جميع المُنْزَل حينئذ كما مر مراراً، وفي وصفه تعالى بالموصول إشعارٌ بعلّية ما في حيز الصلةِ لاستحقاق الحمدِ وإيذانٌ بعِظم شأنِ التنزيلِ الجليلِ، كيف لا وعليه يدور فَلكُ سعادةِ الدارين، وفي التعبير عن الرسول عليه الصلاة والسلام بالعبد مضافاً إلى ضمير الجلالةِ تنبيهٌ على بلوغه عليه الصلاة والسلام إلى أعلى معارجِ العبادةِ وتشريفٌ وإشعارٌ بأن شأنَ الرسولِ أن يكون عبداً للمرسِل لا كما زعمت النصارى في حق عيسى عليه السلام، وتأخيرُ المفعول الصريح عن الجار والمجرور مع أن حقه التقديمُ عليه ليتصل به قوله تعالى: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} أي شيئاً من العِوَج بنوع اختلالٍ في النظم وتَنافٍ في المعنى أو انحرافٍ عن الدعوة إلى الحق وهو في المعاني كالعِوَج في الأعيان، وأما قوله تعالى: {لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} مع كون الجبالِ من الأعيان فللدِلالة على انتفاء ما لا يُدرك من العوج بحاسة البصر، بل إنما يوقف عليه بالبصيرة بواسطة استعمالِ المقاييسِ الهندسيةِ ولمّا كان ذلك مما لا يُشعَر به بالمشاعر الظاهرةِ عُدّ من قبيل ما في المعاني، وقيل: الفتحُ في اعوجاج المنتصِبِ كالعُود والحائِط، والكسرُ في اعوجاج غيرِه عيناً كان أو معنى.
{قَيِّماً} بالمصالح الدينيةِ والدنيويةِ للعباد على ما ينبىء عنه ما بعده من الإنذار والتبشيرِ فيكون وصفاً له بالتكميل بعد وصفِه بالكمال، أو على ما قبله من الكتب السماويةِ شاهداً بصِحتها ومهيمناً عليها أو متناهياً في الاستقامة، فيكون تأكيداً لما دل عليه نفيُ العِوج مع إفادة كونِ ذلك من صفاته الذاتيةِ اللازمةِ له حسبما تنبىء عنه الصيغةُ لا أنه نُفي عنه العوجُ مع كونه من شأنه، وانتصابُه على تقديرِ كونِ الجملةِ المتقدمةِ معطوفةً على الصلة بمضمر ينبىء عنه نفيُ العِوَج تقديرُه جعلَه قيماً، وأما على تقدير كونها حاليةً فهو على الحالية من الكتاب إذ لا فصلَ حينئذ بين أبعاضِ المعطوفِ عليه بالمعطوف وقرئ: {قيماً} {لّيُنذِرَ} متعلقٌ بأنزل والفاعلُ ضميرُ الجلالة كما في الفعلين المعطوفين عليه، والإطلاقُ عن ذكر المفعولِ الأول للإيذان بأن ما سيق له الكلامُ هو المفعولُ الثاني وأن الأولَ ظاهرٌ لا حاجةَ إلى ذكره، أي أنزل الكتابَ لينذر بما فيه الذين كفروا به {بَأْسًا} أي عذاباً {شَدِيدًا مّن لَّدُنْهُ} أي صادراً من عنده نازلاً من قِبله بمقابلة كفرِهم وتكذيبهم، وقرئ: {من لدْنِه} بسكون الدال مع إشمام الضمةِ وكسر النونِ لالتقاء السَاكنين وكسر الهاءِ للإتباع {وَيُبَشّرُ} بالتشديد وقرئ بالتخفيف {المؤمنين} أي المصدقين به {الذين يَعْمَلُونَ الصالحات} الأعمالَ الصالحةَ التي بيّنت في تضاعيفه، وإيثارُ صيغةِ الاستقبال في الصلة للإشعار بتجدد الأعمالِ الصالحة واستمرارِها، وإجراءُ الموصولِ على موصوفه المذكورِ لما أن مدارَ قَبولِ الأعمالِ هو الإيمان {أَنَّ لَهُمْ} أي بأن لهم بمقابلة إيمانِهم وأعمالِهم المذكورة {أَجْرًا حَسَنًا} هو الجنةُ وما فيها من المثوبات الحُسنى.


{مَّاكِثِينَ} حال من الضمير المجرور في لهم {فِيهِ} أي في ذلك الأجر {أَبَدًا} من غير انتهاء أي خالدين فيه، وهو نصبٌ على الظرفية لماكثين، وتقديمُ الإنذار على التبشير لإظهار كمال العنايةِ بزجر الكفّارِ عما هم عليه مع مراعاة تقديمِ التخليةِ على التحلية، وتكريرُ الإنذار بقوله تعالى: {وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا} متعلقاً بفِرْقة خاصة ممن عمّه الإنذارُ السابقُ من مستحقي البأسِ الشديدِ للإيذان بكمال فظاعةِ حالِهم لغاية شناعةِ كفرِهم وضلالِهم، أي وينذرَ من بين سائر الكفرةِ هؤلاء المتفوّهين بمثل هاتيك العظيمةِ خاصة وهم كفارُ العرب الذين يقولون: الملائكةُ بناتُ الله تعالى، واليهودُ القائلون: عزيرٌ ابنُ الله، والنصارى القائلون: المسيحُ ابن الله، وتركُ إجراءِ الموصولِ على الموصوف كما فُعل في قوله تعالى: {وَيُبَشّرُ المؤمنين} للإيذان بكفاية ما في حيز الصلةِ في الكفر على أقبح الوجوه، وإيثارُ صيغةِ الماضي في الصلة للدِلالة على تحقق صدورِ تلك الكلمةِ القبيحة عنهم فيما سبق. وجعلُ المفعولِ المحذوفِ فيما سلف عبارةً عن هذه الطائفة يؤدي إلى خروج سائرِ أصنافِ الكفرة عن الإنذار والوعيدِ، وتعميمُ الإنذارِ هناك للمؤمنين أيضاً بحمله على معنى مجردِ الإخبارِ بالخبر الضارِّ من غير اعتبار حُلول المنذَرِ به على المنذَر كما في قوله تعالى: {أَنْ أَنْذِر الناس وَبَشر الذين ءَامَنُواْ} يُفضي إلى خلوّ النظمِ الكريم عن الدلالة على حلول البأسِ الشديدِ على مَنْ عدا هذه الفرقةِ، ويجوز أن يكون الفاعلُ في الأفعال الثلاثة ضميرَ الكتاب أو ضميرَ الرسول عليه الصلاة والسلام.
{مَا لَهُمْ بِهِ} أي باتخاذه سبحانه وتعالى ولداً {مِنْ عِلْمٍ} مرفوعٌ على الابتداء أو الفاعلية لاعتماد الظرفِ، ومِن مزيدةٌ لتأكيد النفي والجملةُ حاليةٌ أو مستأنَفةٌ لبيان حالِهم في مقالهم، أي ما لهم بذلك شيءٌ من علم أصلاً لا لإخلالهم بطريقه مع تحقيق المعلومِ أو إمكانِه بل لاستحالته في نفسه {وَلاَ لأََبَائِهِمْ} الذين قلدوهم فتاهوا جميعاً في تيه الجهالةِ والضلالةِ أو ما لهم علمٌ بما قالوه أهو صوابٌ أم خطأٌ، بل إنما قالوه رمياً عن عمًى وجهالةٍ من غير فكر ورويّةٍ كما في قوله تعالى: {وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أو بحقيقة ما قالوه وبعظم رُتبتِه في الشناعة كما في قوله تعالى: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدَا تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} الآيات وهو الأنسب بقوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً} أي عظُمت مقالتُهم هذه في الكفر والافتراءِ لما فيها من نسبته سبحانه إلى ما لا يكاد يليق بجناب كبريائِه، والفاعلُ في كبُرت إما ضميرُ المقالةِ المدلولِ عليها بقالوا وكلمةً نُصبَ على التمييز أو ضميرٌ مبهمٌ مفسَّرٌ بما بعده من النكرة المنصوبةِ تمييزاً كبئس رجلاً، والمخصوصُ بالذم محذوفٌ تقديرُه كبُرت هي كلمةً خارجةً من أفواههم، وقرئ: {كبْرتْ} بإسكان الباء مع إشمام الضم، وقرئ كلمةٌ بالرفع {تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} صفةٌ للكلمة مفيدةٌ لاستعظام اجترائِهم على التفوه بها، وإسنادُ الخروجِ إليها مع أن الخارجَ هو الهواءُ المتكيفُ بكيفية الصوتِ لملابسته بها {إِن يَقُولُونَ} ما يقولون في ذلك الشأنِ {إِلاَّ كَذِبًا} أي إلا قولاً كذباً لا يكاد يدخُل تحت إمكانِ الصدق أصلاً، والضميران لهم ولآبائهم.
مُثّل حالُه عليه الصلاة والسلام في شدة الوجدِ على إعراض القومِ وتولّيهم عن الإيمان بالقرآن وكمالِ التحسّر عليهم بحال من يُتوقع منه إهلاكُ نفسِه إثرَ فواتِ ما يُحِبّه عند مفارقة أحبّتِه تأسفاً على مفارقتهم وتلهفاً على مهاجَرتهم، فقيل على طريقة التمثيلِ حملاً له عليه الصلاة والسلام على الحذر والإشفاق من ذلك:


{فَلَعَلَّكَ باخع} أي مُهلكٌ {نَّفْسَكَ على ءاثارهم} غماً ووجداً على فراقهم وقرئ بالإضافة {إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث} أي القرآنِ الذي عبّر عنه في صدر السورةِ بالكتاب، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ ثقةً بدلالة ما سبق عليه، وقرئ بأنْ المفتوحةِ أي لأن لم يؤمنوا، فإعمالُ باخعٌ بحمله على حكاية حالٍ ماضيةٍ لاستحضار الصورةِ كما في قوله عز وجل: {باسط} {الحديث أَسَفاً} مفعولٌ له لباخعٌ أي لِفَرْط الحزنِ والغضبِ أو حالٌ مما فيه الضمير أن متأسفاً عليهم، ويجوز حملُ النظمِ الكريم على الاستعارة التبعيةِ بجعل التشبيهِ بين أجزاءِ الطرفين لا بين الهيئتين المنتزَعتين منهما كما في التمثيل، وقد مر تحقيقُه في تفسير قوله تعالى: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ} {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض} استئنافٌ وتعليلٌ لما في لعل من معنى الإشفاقِ، أي إنا جعلنا ما عليها ممن عدا مَنْ وُجّه إليه التكليفُ من الزخارف حيواناً كان أو نباتاً أو معدِناً كقوله تعالى: {هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأرض جَمِيعاً} {زِينَةُ} مفعولٌ ثانٍ للجعل إن حُمل على معنى التصييرِ أو حالٌ إن حمل على معنى الإبداعِ، واللام في {لَهَا} إما متعلقةٌ بزينةً أو بمحذوف هو صفةٌ لها أي كائنةً لها أي ليتمتع بها الناظرون من المكلفين وينتفعوا بها نظراً واستدلالاً، فإن الحياتِ والعقاربَ من حيث تذكيرُهما لعذاب الآخرة من قبيل المنافِع بل كلُّ حادثٍ داخلٌ تحت الزينة من حيث دَلالتُه على وجود الصانعِ ووَحدتِه فإن الأزواجَ والأولادَ أيضاً من زينة الحياةِ الدنيا بل أعظمُها ولا يمنع ذلك كونُهم من جملة المكلفين فإنهم من جهة انتسابهم إلى أصحابهم داخلون تحت الزينةِ ومن جهة كونهم مكلفين داخلون تحت الابتلاء.
{لِنَبْلُوَهُمْ} متعلقٌ بجعلنا أي جعلنا ما جعلنا لنعاملَهم معاملةَ من يختبرهم {أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} فنجازيهم بالثواب والعقابِ حسبما تبين المحسنُ من المسيء وامتازت طبقاتُ أفرادِ كلَ من الفريقين حسب امتيازِ مراتبِ علومِهم المرتبة على أنظارهم وتفاوتِ درجاتِ أعمالِهم المتفرّعةِ على ذلك كما قررناه في مطلع سورة هود، وأيُّ إما استفهاميةٌ مرفوعةٌ بالابتداء وأحسنُ خبرُها والجملةُ في محل النصبِ معلِّقةٌ لفعل البلوى لما فيه من معنى العلمِ باعتبار عاقبتِه كالسؤال والنظرِ، ولذلك أجريَ مَجراه بطريق التمثيلِ أو الاستعارةِ التبعية، وإما موصولةٌ بمعنى الذي وأحسنُ خبرٌ لمبتدأ مضمر، والجملةُ صلةٌ لها وهي في حيز النصبِ بدلٌ من مفعول لنبلوَهم والتقديرُ لنبلوَ الذي هو أحسنُ عملاً فحينئذ يحتمل أن تكون الضمةُ في أيُّهم للبناء كما في قوله عز وجل: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً} على أحد الأقوالِ لتحقق شرط البناءِ الذي هو الإضافةُ لفظاً وحذفُ صدرِ الصلةِ وأن تكون للإعراب لأن ما ذكر شرطٌ لجواز البناءِ لا لوجوبه، وحُسنُ العملِ الزهدُ فيها وعدمُ الاغترار بها والقناعةُ باليسير منها وصرفُها على ما ينبغي والتأملُ في شأنها وجعلُها ذريعةً إلى معرفة خالقِها والتمتعُ بها حسبما أذِن له الشرعُ وأداءُ حقوقها والشكرُ لها، لا اتخاذُها وسيلةً إلى الشهوات والأغراضِ الفاسدة كما يفعله الكفرةُ وأصحابُ الأهواء.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8